بين يديك خريطة، تستدل بها إلى العنوان. بعد يومين، وتحديداً في الأول من شباط المقبل، سيكون بإمكانك أن تزور البيت الجديد. ستسأل أولاً عن شارع المكحول في منطقة الحمراء. ستسأل عما يعنيه هذا الشارع الكائن على مقربة من جامعات ومدارس في قلب العاصمة. الشارع الذي احتضن «تراث التعايش»، واحتضن الشعراء والكتاب وأصحاب الفكر والفن. وربما يعد آخر الشوارع التي حافظت على الطابع الاجتماعي المتنوع.
تصل إلى المبنى القديم، وتدخل البيت القائم في طابقه الأول. يستقبلك معرض دائم للفنانين وركن للموسيقى. وفيه، ستتجول بين مكتبة تستريح فيها في رحاب الكتب، وفسح للقاءات تتنقل فيها بين أفكارك بحريّة.
ستستقبلك فيه، في يوم افتتاحه الأول[، لوحات لخمسة عشر فناناً تشكيلياً، تحيات يقدمها فنانون عديدون، إما بالموسيقى أو بالغناء، وتحيات أخرى يقدمها مفكرون وأدباء وإعلاميون.
بعد يومين، ستزور المكان للمرة الأولى. لاحقاً، لن تحتاج إلى خريطة تحملها: سيكون لك فيها بيت دائم.
العلمانية فقط
هو «البيت العلماني». مساحة لقاء وحوار، وفسحة للتفكير الحر، ومقرّ أنشطة مدنية متنوعة. ليس لـ«البيت» هدف سوى أن يكون منبراً للعلمانيين في لبنان، كما يشرح منسّقه المؤقت، الكاتب والصحافي نصري الصايغ: «وفّرنا المكان اللائق، والإقامة اللائقة. وفرنا أيضاً مكتبة مجهزة بكتب ذات قيمة عالية على المستوى العلماني والديني والفكري عموماً، واتصال عبر الإنترنت. هي فسحة يعبر العلمانيون فيها عن ثقافتهم وإبداعاتهم».
بمعنى آخر، يقول الصايغ، إن «البيت» هو مكان للقاء علمانيين، ليس لديهم مكان أو فسحة، حول مسألة العلمانية فقط لا غير.
نشأة «البيت»
لفكرة تأسيس «البيت العلماني» حكاية يمتزج فيها الأمل بالحزن، ويرويها الصايغ: بعد لقاءين تلفزيونيين، اتصل أحدهم من بلجيكا. كان قد سمع الصايغ يؤكد مراراً: «لا يمكن أن تنتصر العلمانية إلا بإقامة مؤسسات علمانية». ما لقي صدى خاصاً لدى فوزي أبي خليل، لبناني يقيم في بلجيكا ويعمل فيها.
كان أبي خليل «قائداً» بين مجموعة لبنانية تعيش هناك، قررت حمل اسم «من أجل لبنان علماني». ثم حضر إلى لبنان، على اعتبار أنه مستعد لإقامة مؤسسات فكرية وإعلامية علمانية. لقاء أول فثانٍ وثم لقاء ثالث. والنتيجة كانت فكرة إنشاء «البيت». وقبل اللقاء الرابع... توفي أبي خليل إثر حادث سير على طريق صور قبل نحو عامين ونصف العام.
عرفاناً لجميل فوزي أبي خليل، قررت المجموعة وأصدقاؤه في لبنان تأسيس البيت والمكتبة المسماة باسمه. تولت المجموعة تمويل التأسيس والعمل لمدة عام أو عامين، على أن يعمد «البيت» إلى إنشاء مشاريع مالية فيحقق تمويله ذاتياً في المستقبل.
في المرحلة الأولى، يكمل الصايغ: «قررنا افتتاح النشاط في البيت. وكان علينا أن ننطلق إدارياً بموازة ذلك. لذا، نصّبت نفسي منسقاً مؤقتاً»، يقولها ممازحاً بينما يروي مرحلة الإشراف على تأسيس «البيت». ويعمل إلى جانب الصايغ المدير التنفيذي أنجلو بعيني. والآخرون هم من المتطوعين الشباب: طلاب وناشطون وكتاب وموسيقيون وصحافيون وأساتذة جامعات. أما المرحلة التالية فستقوم على أساس الانتساب على قاعدة الجمعيات، مع انتخاب الهيئة الإدارية المناسبة للعمل.
بـ«نفس طويل»
عند السؤال عن جدوى مثل هذا الطموح في ظل ما نشهده من انقسام طائفي ومذهبي، يحيلنا الجواب إلى مكان آخر. يقول الصايغ: «السؤال يطرح في كافة الظروف. لكن المسألة تكمن في فهم مسار التغيير وآليته. المشروع لا يرتبط بظروف زمنية، بل هو مشروع طويل النفس. هدفه الأساسي والجذري هو أن يصبح العلماني علمانياً بشخصيته القانونية».
من هنا، فإن النشاط الأول لـ«البيت» هو الدعوة إلى الانخراط في برنامج شطب الإشارة إلى الطائفة في قيود سجلات النفوس. ويشرح الصايغ: «البرنامج لا يلزم أحداً، بل نحن نبشر به على مستوى اللبنانيين، ومن أراد أن يكون علمانياً فليذهب إلى سجل النفوس ليطالب بذلك».
لا يكتفي «البيت» بهذا القدر من النشاط. فهو، وإن كان ينفي عن نفسه «تهمة» الحل، يحمل معلومات سيقدمها للعلمانيين: لقاءات ومحاضرات وندوات تدور جميعها حول العلمانية. منح للباحثين في العلمانية، في حال توفر الدعم المالي. مدخل لتربية الأطفال على العلمانية، وهو مطلب أساسي من شرعة حقوق الطفل المقرة عالمياً. وحلم بالتحوّل إلى مركز للمؤتمرات العلمانية العربية مستقبلاً.
لكن نجاح «البيت» هو رهن نجاح العلمانيين أنفسهم. تلك هي فكرة تأسيس البيت. فهو لا يدّعي تقديم حل جاهز لمسألة الطائفية في لبنان. لكنه يعد بأن يكون «أداة» يمكن للعلمانيين أن يحققوا بواسطتها ما يهدفون إليه.
فالمشكلة الأساس، بحسب الصايغ، ليست في الطائفيين وممارستهم: «الطائفيون عملوا وحاربوا من أجل بلد طائفي. والعلمانيون قاتلوا إلى جانبهم ومارسوا، في السياسة وفي الحرب، كل ما أرادته لهم التيارات الطائفية. ربح الطائفيون بلداً على قياسهم، وخسر العلمانيون كل شيء. الطائفي يقوم بواجبه تجاه طائفته، فيخدم مشروعها ويسعى إلى إنجاحه. وذلك أمر مفهوم. لكن أن يعمل العلماني في خدمة مشروع طائفي، فذلك ما يجعله موضع الإدانة».
([) يفتتح «البيت العلماني» السادسة والنصف من مساء الجمعة 1 شباط المقبل، ويستمر حدث الافتتاح لغاية الثالث منه. ثم يفتح أبوابه، يومياً، بين الثالثة بعد الظهر والتاسعة مساء، باستثناء يومي السبت والأحد.